تطبيقات قاعدة التيسير

البحوث الفقهية / القواعد الفقهيه


تطبيقات قاعدة التيسير
اسم الباحث محمد حمودان الغماري
المصدر موقع الفقه الإسلامي
التحكيم ـــــ
المقدمة وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن وبعد:
مما أصبح معلوما عند الناس جميعا، ومسلما به عند العقلاء كافة، أن الشريعة الإسلامية لم تقصد إلى إعنات الناس، أو تكليفهم بما هو شاق عليهم، كما لم تجعل من وسائل العبادات، أو علامات الخضوع والانقياد لله رب العالمين تحمليهم فوق ما يطيقون، وإنما شرعت لهم ما هو في حدود طاقاتهم، فما كلفوا به من الأوامر أو النواهي هو سهل وميسر تنفيذه؛ لما فيه من الواقعية والسماحة والتخفيف الذي يسهل على كل صاحب إرادة صحيحة النزولَ عنده والوقوفَ عند حدود الله تعالى فيه.
ولما بدأ الناس يأخذون بالسهل واليسير في أمورهم بسبب اختلاط المفاهيم الشرعية مع غيرها عندهم، انحرفوا وتساهلوا أو تشددوا وغالوا في فهم حقيقة المشقة المنفية شرعا، والتيسير المراد الأخذ به والعمل به؛ لذا خصصت دراسة هذه القاعدة، لتبيين حقيقتها ، وما تحمله في طياتها من معاني ودلالات، وشروط وضوابط وأحكام وتشريعات، تجعل أحكام الشريعة واضحة وجلية، ومبادئها ثابتة وخالدة ،- وذلك حسب المستطاع ـ .
وقد قرر فقهاؤنا عموما والمالكية خصوصا أن هذه القاعدة هي إحدى القواعد الكبرى التي بني عليها الفقه ويتخرج عنها جميع رخص الشرع وتخفيفاته. وتعتبر أصلا عظيما من أصول الشرع التي صارت أصلا مقطوعا به لتوفر الأدلة عليها.وفي هذا الصدد نقرأ كلاما جميلا لأحد أعلام المالكية ألا وهو الإمام أبو إسحاق الشاطبي ـ ت 790ـ رحمه الله، إذ يقول: ‘’ إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع. ‘’ الموافقات 1/231 ولما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره وتصويره، والتصورات سابقة للتصديقات في إدراك الحقائق والماهيات، كانت التعاريف أولى ما يقدم بين يدي البحوث والموضوعات. والمتقدمون من علمائنا كانوا يقصدون بالتعريفات تقريب المعاني وتجلية الحقائق في تحديد المفاهيم وضبط الاصطلاحات، وهذا أمر معتاد في معرفة العلوم وإدراكها؛ حتى قيل:" مفاتيح العلوم معرفة اصطلاحاتها".
لذا وضعت هذا القسم(التحليلي) حتى يمكن جمع شتات الموضوع وتلَمُّسَ حقيقته، ويكونَ سهل الاستيعاب وأيسرَ في الفهم والإدراك.
وحتى يتم هذا الأمر أردفت ذلك بذكر التطبيقات القديمة والحديثة لهذه القاعدة وهي المقصودة من الدراسة أصالة، وهكذا قسمت هذا العرض إلى قسمين. تناولت في الأول دراسة الجانب النظري للقاعدة، وفي الثاني تطرقت إلى الجانب التطبيقي لها، وذلك كالتالي: المبحث الأول : دراسة الجانب النظري للقاعدة ويشمل النقط التالية.
المطلب الأول: تعريف القاعدة والاستدلال عليها.
الفرع الأول : تعريفها الفرع الثاني : الاستدلال عليها.
المطلب الثاني : القواعد المندرجة تحتها ومستثنياتها.
الفرع الأول: القواعد المندرجة تحتها.
الفرع الثاني : مستثنياتها. المبحث الثاني : يتعلق بالجانب التطبيقي للقاعدة .
المطلب الأول : التطبيقات الخاصة بباب المعاملات المالية.
المطلب الثاني : التطبيقات العامة للقاعدة.
المبحث الأول: دراسة الجانب النظري للقاعدة.
سأدرس في هذا المبحث القاعدة من جانبها النظري التحليلي سالكا في ذلك الخطوات التالية: المطلب الأول: تعريف قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، والتأصيل لها. الفرع الأول: تعريف قاعدة: "المشقة تجلب التيسير" يتطلب تَبَيُّن معنى القاعدة وفهمُ مدلولها الوقوف على مفرداتها التي تركبت منها؛ لما علم أن إدراك التصديقات يتوقف على إدراك التصورات. وحتى يكون المعنى واضحا والمدلول جليا، فإنا سنقسم هذا المطلب إلى فرعين:
أ/: مدلول مفردات القاعدة. أولا: مدلول المشقة.
1- المشقة لغة: المشقة بالتحريك وتشديد القاف مصدر شق، يقال: شق عليه الأمر يشق شقا ومشقة أي ثقل عليه . قال ابن فارس: "الشين والقاف أصل واحد صحيح، يدل على انصداع في الشيء... يقال: أصاب فلانا شق ومشقة؛ وذلك الأمر الشديد، كأنه في شدته يشق الإنسان شقا، قال الله تعالى: "وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس " . وقال ابن سيده: "والشق والمشقة الجهد والعناء" .
2- المشقة اصطلاحا.
أما المشقة اصطلاحا، فلم أقف لها على تعري فقهي خاص، وكأن السبب في ذلك استغناؤهم بالمعنى اللغوي عن وضع تعريف اصطلاحي لها؛ إذ هي: كل أمر يثقل فعله أو تركه، وهذا أمر منصرف إلى كل متعب وشاق . ويمكن وضع تعريف فقهي لها على وجه التقريب لا التحديد, فيقال هي: "التكاليف الشرعية التي فيها على النفس كلفة زائدة على المعتاد".
ثانيا: مدلول تجلب.
إن كلمة "تجلب" فعل مضارع مصدرها جَلْب-بفتح الجيم وسكون اللام-. والجلب لغة هو: السوق والإتيان والطلب . قال ابن فارس "الجيم واللام والباء أصلان: أحدهما: الإتيان بالشيء من موضع إلى موضع، والآخر: شيء يغشى شيئا ". وهذان المعنيان كلاهما ملحوظان في القاعدة؛ لما تستدعيه المشقة من طلب التيسير، ولما في تغطيتها وسترها بالتيسير. ثالثا: مدلول التيسير:
1- التيسير لغة: التيسير مصدر من يسر ييسر تيسيرا، يقال: يسر الأمر إذا سهله ولم يعسره ولم يشق على غيره أو على نفسه، واليُسْر: بمعنى اللين والانقياد، والتيسير: التهيئة والتسهيل. قال ابن فارس: "الياء والسين والراء أصلان: أحدهما: انفتاح الشيء وخفته، والآخر: عضو من الأعضاء، فالأول: اليسر ضد العسر" . وقال الخليل: "يقال إنه ليَسْر: خفيف، ويسر أي لين الانقياد سريع المتابعة" .
2- والمقصود بالتيسير هنا: التسهيل على المكلفين والتخفيف عنهم في التكاليف الشرعية التي أمروا بها فعلا أو تركا.
ب/ مدلول القاعدة باعتبارها مركبة. تدل القاعدة باعتبارها مركبة على مدلولين: مدلول عام ومدلول خاص.
الخاتمة وبعد إتمام هذا العرض -بتوفيق الله تعالى ومنه أولا وآخرا-، حاولت أن ألخص في خاتمته أهم النتائج المتوصل إليها من خلال دراسة هذه القاعدة والتي يمكن إبرازها في الأبجدية التالية:
أ‌- إن خروج بعض الفروع الفقهية عن قاعدة ما غير قادح في قاعديَّتها باعتبار أنه داخل في قاعدة أخرى غيرها، أو فقده مقوما من مقومات دخوله فيها.
ب‌- إن الاحتجاج بالقاعدة الفقهية لابد وأن يكون مستندا فيه إلى دليل شرعي إما نصا أو إجماعا أو قياسا أو استدلالا...ولذا كان الخلاف في الاحتجاج بها ليس واقعا عليها لذاتها، وإنما هو لاعتبارات خارجية عنها محيطة بها. ج- إن مفهوم المشقة ودلالاتها يختلف باختلاف جهة النظر إليها هل يقصد به معرفة أصل دلالاتها أو يراد به بناء الحكم عليها.
د- إن الشارع الحكيم لم يقصد في تكليفاته إعنات الناس وإحراجهم، والمكلف إذا رام المكلف تحصيل المشقة كان قصده غير معتبر لمناقضة قصده قصد الشارع. هـ-
إن رفع الحرج عن المكلفين والتيسر عليهم أصل من أصول الشريعة الثبات ومقصد من مقاصدها الأساسية.
و- إن أحكام الشريعة يجب أن تفهم على مراد الشارع لا كما يبتغي المكلفون.
ز- الأصل في أحكام الشريعة الثبات والاستقرار وما خرج عن هذا الأصل فقد وضعت له أحكام خاصة به.
ح- ما تغير من الأحكام لسبب معتبر شرعا يعود إلى أصله عند زوال سبب تغيره لقاعدة: "العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما"
ط- إن عجز المكلف عن القيام بفعل مكلف به، لا يعني خروجه عن الخطاب إذا كان قادرا على فعل جزء منه.
ي- إن ارتكاب المحظور للضرورة لا يفقده صفة الحرمة أبدا، وإن فقدها في بعض الحالات ابتداء. –
وأخيرا: فإن خطاب الشارع وتشريعاته وأحكامه جاءت -بإرادة الله تعالى ومشيئته- مراعية لأحوال المكلفين وقدراتهم، ومبتغية إصلاح أحوالهم وإسعادهم في الأولى والأخيرة..

للتحميل اضغط هنا